تقرأ بعد انجيل قداس يوم الجمعة من الأسبوع السادس من الصوم الكبير
تتضمن إثبات المعمودية من كلام الله والحث على الطهارة .
مرتبه على قوله تعالى لنيقوديموس :
" إذا كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت الله "
( يو 3 : 1 – 13 )
لما صعد سيدنا له المجد إلى أورشليم قرب عيد فصح اليهود وجد الباعة فى الهيكل يبيعون ويشترون فطردهم ( يو 2 : 13 – 17 ) وبقى هناك يعلم ويصنع آيات شفاء حتى آمن كثيرون باسمه ( يو 2 : 23 ) .
وفى تلك الاثناء جاء اليه نيقوديموس الفريسى ليلا وقال له : " يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما . لان ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن الله معه " . ومن هذا القول يظهر نيقوديموس وقت مجيئه لم يكن مؤمنا بالمسيح أنه ابن الله المتجسد لخلاص العالم . وإنما بسبب الآيات التى صنعها يسوع ظنه معلما فقط مرسلا من الله . ولهذا السبب قال له : " يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله " .
ولعل قائلا يقول : ولماذا أتى نيقوديموس إلى السيد المسيح ليلا ؟ فنقول له لانه من الرؤساء ورجال الحكم الذى يعسر عليهم ترك مذهب آبائهم خوفا من ضياعهم مركزهم . أو من تعرضهم لإنتقادات الشعب وهياجه ضدهم . أو ربما يكون غير ذلك أيضا .
فالسيد عرف فكر نيقوديموس قبل أن يأتى اليه . كما عرف نثنائيل وهو تحت التينة ( يو 1 : 48 ) . فاراد أن يعلمه طريق الخلاص قائلا له : " إن كان أحد لا يولد من فوق . لا يقدر أن يرى ملكوت الله " . ولكن نيقوديموس لم يفهم أن المسيح له المجد بما قاله له يرشده إلى الخلاص بواسطة الميلاد الثانى الذى هو التجديد بمعمودية الماء والروح ولذلك أجابه بقوله : كيف يمكن الانسان أن يولد وهو شيخ . ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد " . فإجابه السيد بعبارة أوضح من الاولى قائلا له : " الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله " . فالولادة من الماء والروح هى الميلاد الثانى ( تى 3 : 5 ) . أو هى المعمودية أول اسرار الكنيسة السبعة . وبدونه لا يمكن الإنسان مهما كان أن ينال أى سر من الاسرار الاخرى لانه بابها وطريقها .
ولما كان الله عالما بكل الاشياء قبل تكوينها . فقد سبق فعرف سقوط الجنس البشرى قبل إبداعه . ثم حدد انتشاله من السقوط وعين الطريقة التى كان مزمعا اجراؤها لذلك بواسطة ابنه الوحيد .
وتلك الطريقة هى معمودية الماء والروح . بدليل ما تراه فى الكتاب المقدس من الرموز والاشارات إلى ذلك فإننا نرى فيه ان وقت إبداع العالم " كان روح الله يرف على وجه الماء " ( تك 1 : 2 ) ولما غضب الله على البشر بسبب الخطية غرق العالم بالماء ( تك 7 : 17 – 24 ) . ولما سكن غضبه جعل قوس قزح فى السماء علامة لكون غضبه وإثباتا لعهد السلام ( تك 9 : 12 – 15 ) . وما هى تلك العلامة سوى بخار وماء .
فالماء المقدس مرموز إليه هنا بالماء . والروح مرموز إليه بالبخار . ولما اراد الله خلاص بنى اسرائيل من العبودية أغرق فرعون وجنوده فى الماء ( خر 14 : 26 – 28 ) . وإعطاء الكهنوت لهارون لم يكن إلا بعد غسل جسده بالماء ( خر 29 : 4 ) . كذلك الكهنة لم يقبلوا فى خدمة قبة الشهادة إلا بعد إغتسالهم بالماء ( خر 30 : 17 – 21 ) . وأخيرا جاء يوحنا سابق المسيح يعمد التائبين بالماء ( مر 1 : 4 – 8 ) .
فهذه كلها كانت رموزا لمعمودية الروح الماء . وها قد بطلت تلك الرموز وحلت مكانها الحقائق . فإننا نرى فى الكتاب سيدنا له المجد صاعدا من الماء والسموات مفتوحة والروح القدس نازلا عليه كحمامة . ونسمع صوتا من السماء يقول : " هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت " ( مت 3 : 16 و 17 ) .
وبعد قيامته أمر تلاميذه بممارسة هذا السر بقوله : " اذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " ( مت 28 : 19 ) ثم قضى بأن : " من آمن واعتمد خلص . ومن لم يؤمن يدن " ( مر 16 : 16 ) . فباشر التلاميذ عماد من أمن على أيديهم بتغطيسهم ثلاث دفعات فى الماء بعد تقديسه بالصلاة الخاصة به ( أع 8 : 26 – 39 ) . فالماء هو المادة والصلاة هى الصورة فى هذا السر الذى به ينال المؤمنون نعمة سرية تجدد قلوبهم وتصيرهم أبناء الله .
أما السبب فى العماد فواضح من قول الرسول : أم تجهلون اننا نحن الذين اعتمدنا ليسوع المسيح اعتمدنا لموته . فدفنا معه المعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الاموات بمجد الآب . هكذا نسلك نحن فى جدة الحيوة لانه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته عالمين هذا أن انساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية " ( رو 6 : 3 – 6 ) .
ويقول البعض لماذا عين الله تعالى الماء علامة مادية لمثل هذه النعمة السرية الالهية والجواب هو لوجود النسبة بينهما . لان الماء يجدد القوى الجسدية . والنعمة أيضا تحيى خواص النفس الروحية التى أماتتها الخطية . الماء يغسل الاقذار والعماد ينقى من الاوزار وأيضاً بما اننا : " نحن الذين اعتمدنا ليسوع المسيح اعتمدنا لموته " ( رو 6 : 3 ) فيلزم حتماً أن ندفن معه بالمعمودية للموت . وفى غير الماء لا يمكن أن يدفن الانسان ويخرج حيا . لانه لا فى التراب ولا فى النار يدفن الانسان بدون خطر . ولا فى الهواء يمكن ذلك . نعم أن سيدنا دفن فى التراب ميتاً بالجسد ولكن نحن ندفن فى الماء أحياء على شبه موته فقط ( رو 6 : 5 ) .
ويتبين مما تقدم أن أقوم أسم يطلق على المعمودية هو : سر الميلاد الثانى بالماء وكلمة الحياة لأننا بالطبيعة نولد أبناء الغضب . أما بالعماد فنولد فى المسيح أبناء الرحمة ( أف 2 : 3 – 5 ) . لأنه قد أهطى سلطاناً للذين يؤمنون باسمه أن يصيروا أبناء الله ( يو 1 : 12 ) .
والمعمودية على أربعة أنواع : الأول معمودية الماء والروح . وقد تقدم ذكرها . الثانى معمودية النية والايمان فى وقت لا تسمح ظروفه بالعماد مثلا كاللص ( لو 23 : 12 ) . الثالث معمودية الدم . وهى التى أعتمد فيها سيدنا له المجد بإهراق دمه استشهاداً لحق الله . بدليل قوله لإبنى زبدى : " أتستطيعان أن تشربا الكائس التى أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التى أصطبغ بها أنا " ( مت 20 : 22 ) . وفيها أيضاً قد أعتمد الشهداء الابرار . كما يقول القديس غريغورس الناطق بالإلهيات . أما النوع الرابع فهى دموع التوبة . وقد سنها سيدنا وقت منحه السلطان لتلاميذه بحل وربط الخطايا ( يو 20 : 23 ) .
إن نيقوديموس لم يفهم معنى قول السيد له : " إن كان أحد لا يولد من فوق " أنه يعلمه بان غسل الماء بالكلمة يطهر الإنسان ( أف 5 : 26 ) . ولكنه تغير بعد ذلك ممن قوة تأثير كلام الله . وصار محباً للسيد له المجد . لأنه بعد أن كان لا يجسر أن يأتى اليه نهاراً أصبح يدافع عنه علناً حتى أظهر لدى موته الأقدس انه لم يشارك الأعداء فى ارتكاب الظلم ضد أقنومه الالهى . إذا أماتوه بإهانة وإزدراء . بل قد زاد حباً وغيره نحوه بعد موته . وأتى علناً باطياب مع يوسف الرامة واخذ جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب كعادة اليهود ( يو 19 : 38 – 40 ) .
فنحن إذن قد صرنا بالعماد خليقة جديدة وهيكلا لله . كما يقول الرسول : " أنتم هيكل الله الحى كما قال الله أنى سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم ألهاً وهم يكونون لى شعباً ... "
فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة فى خوف الله " ( 2 كو 6 : 16 – 18 و 107 ) . وكما يقول أيضاً : " اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب " ( عب 12 : 14 ) . وكما يقول النبى : " الطاهر اليدين والنقى القلب يحمل بركة من عند الرب " ( مز 24 : 4 و 5 ) .
الطهارة إذن لا تقوم بالأمور الخارجية ولا بالتظاهر بالأعمال الصالحة ولا بواسطة غسل الماء . بل بطهارة العيشة ونقاوة القلب كما قال الكتاب الطاهر إن اتقياء القلب يعاينون الله " ( مت 5 : 8 ) .
أنا أعرف كثيرين تحصلوا بواسطة الدهاء على أن يصفهم الغير بحسن السيرة . ولكنهم بعيدون عن الطهارة بمراحل . وغيرهم يعملون أعمالا تظهر انها صالحة ولكنها ليست على مبدأ صالح بل لغايات خاصة هم يعرفونها .
إن الطهارة أمر لازم للخلاص . ولا خلاص بدونها . والصوم والصلاة وكل الفضائل بدون الطهارة باطلة لا تفيد شيئاً . فلا يخدعن الإنسان نفسه بدون جدوى لأن الله طاهر . وقد أعلن فى كتابه الطاهر أن لا يدخل السماء غير الطاهر .
فسبيلنا أن نطهر ذواتنا داخلا وخارجاً . مستعينين بوسائط النعمة التى هى سماع كلام الله والصوم والصلاة واشباه ذلك . لنبلغ إلى مكان القديسين بتحنن إلهنا . الذى له المجد إلى الأبد . آمين .