Search

أولاً الصداقة

أولاً الصداقة

هناك فرق كبير بين الصداقة والزمالة داخل الدير، فالعلاقة بين الرهبان داخل الدير الواحد، هى علاقة محبة وأخوة ولا يصح أن نسميها صداقة، لا يمكن للراهب أن يصادق كل رهبان الدير، إنما هو يختار عدداً قليلاً منهم، قد يكون واحد أو أكثر، يجمعهم هدف واحد وفكر واحد وصفات وسلوكيات واحدة، كأن يحبون أن يتمشوا معاً أو يتزاوروا ويقضوا وقتاً معاً. ودائماً ما يكونون متقاربين فى حالة مرض أحدهم، أو مروره بضيقة أو تجربة ما، كما وقد يتخللها الإفصاح لهم ببعض الخصوصيات وليس كلها.

وهناك صفات كثيرة يتحلى بها الصديق يذكر بعضها القديس مكسيموس فى عدة نقاط :-

1-الصديق الحميم هو من يشارك قريبه أثناء المحن فى إحتمال الضيقات والشدائد والتجارب والنكبات، كأنها تخصه، دون إضطراب وتذمر.

2-الصديق الأمين هو سر متين، لأنه إذا كان صديقه فى رغد وسعة، كان له نعم المستشار ونعم الشريك، وإذا كان فى محنة كان له نعم المعين ونعم الحبيب.

3-العاملون بدقة بوصايا الله، والأصفياء الأصليون لأحكام الله، هم وحدهم لا يتركون أصدقاءهم إذا سمح الله بتجربتهم.

4-أما ماقتو وصايا الله وجهله وأحكامه، فإنهم يشاركون أصدقاءهم إذا كانوا فى سعة ويتركونهم إذا وقعوا فى محنة، وكثيراً ما ينحازون عنهم ويقفون مع أعدائهم.

ثانياً: الصداقات وتأثيرها فى المجامع الرهبانية

على الرغم أن الحياة الرهبانية فى مفهومها الأول وفى جوهرها هى الوحدة والبعد عن كل أحد للإرتباط بالواحد أى الله. إلا أننا لا ننكر مع ظهور ونشأة التجمعات الرهبانية داخل الأديرة وخارجها ظهرت صداقات بين الرهبان وبعضها.

من هنا كان للصداقة فى المجامع الرهبانية لها تأثيرها الخطير، سواء على المجمع الرهبانى ككل، أو على الراهب الذى يحب الجلوس معهم والحديث إليهم. فلا شك أن أحاديث الأصدقاء وسلوكياتهم، تؤثر على الفرد، فإنك تستطيع أن تتعرف على شخصية أى راهب من خلال معرفتك بأصدقائه الذين يتعامل معهم.

ولهذا أشار آباء الرهبنة الأُوَّل إلى أهمية ذلك فى أقوالهم:-

قال مارإسحاق: محادثة الفضلاء والمشير الحكيم سور رجاء.

قال الأنبا باخوميوس: إذا ضعفت عن أن تكون غنياً بالله، فالتصق بمن يكون غنياً به، لتسعد بسعادته وتتعلم كيف تمشى حسب أوامر الإنجيل، فإذا أحببت الأطهار فإنهم يكونون لك أصدقاء، ومعهم تصل إلى مدينة الله المملوءة نوراً.

وقال شيخ: إذا أقام راهب عمَّال فى موضع مع رهبان غير عمَّالين، فإنه لا يفلح إلا إذا ضبط نفسه، ولم يرجع إلى الوراء، ويكون بذلك مستحقاً جزاءً صالحاً، أما الراهب البطَّال الذى يقيم بين مجاهدين، فإن انتبه فإنه يمشى إلى قدام، ولن يرجع إلى وراء.

وقال آخر: من إجتمع بإخوة عمَّالين، فلو كان غير عمَّال فإن لم يتقدم إلى قدام، فلن يتأخر إلى وراء، كذلك من يجتمع بإخوة متهاونين، فلو كان عمَّالاً فإن لم يخسر فلن يربح. الساقط فلينهض لئلا يهلك، والقائم فليحفظ لئلا يسقط.

وقال شيخ آخر: إذا أنت مشيت مع رفيق صالح من قلايتك إلى الكنيسة، فإنه يُقدمك ستة أشهر وإذا أنت مشيت مع رفيق ردىء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنة. والكتاب المقدس يقول " المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1 كو 15: 33 ).

ثالثاً: أنواع الصداقات

تتعدد أنواع الصداقات وتختلف حسب أهداف وسلوكيات كل مجموعة، ولكن يمكن تقسيمها إلى نوعين من الصداقات. الأولى منها تُسمى صداقات جسدية، ويتمركز سلوك هذه الصداقة حول أمور عالمية أو جسدية .أما الثانية، فتُسمى صداقات روحية، ويتمركز سلوك هذه الصداقة حول كل ما هو روحى. وسوف نأخذ كل واحدة من هذه الصداقات على حدة.

1-صداقات جسدية: ينشأ هذا النوع من الصداقات بين الرهبان، فى بداية الحياة الرهبانية، ومحور هذه الصداقات أمور عالمية وجسدية، كالأكل والشرب معاً، أو للجلوس للسمر والضحك والتسلية معاً، أو التمشية وتضييع الوقت أو أى شىء من هذا القبيل، وغالباً ما يتخلل هذه الصداقات أحاديث غير بناءة من نقد لإدارة الدير أو الإعتراض على سياسة المسئولين، أو نقد سلوك وتصرفات بعض رهبان الدير، أو التهكم والنميمة وإغتياب الآخرين.

وبعد إنقضاض هذه الجلسات، يرجع الراهب منهم إلى قلايته، وقد تملكه الكسل والملل والتوانى... مما قد يؤدى إلى فتور روحى فى الحياة الروحية.

ولذا حذر مار إسحاق السريانى من ذلك فقال " لا تكن صديقاً لمحب الضحك الذى يحب أن ينال من الناس ويشهر بهم لأنه يقودك إلى تعود الإسترخاء.

وقد يستمر الراهب فى هذه العلاقات فترة قصرت أو طالت إلى أن يفيق منها حينما يدرك تأثيرها الضار على خلاص نفسه، وعدم جدوى مثل هذه الصداقات فى الحياة الرهبانية، وغالباً لا تستمر هذه الصداقات طويلاً، لأنه سرعان ما تدب الخلافات بين أفرادها بسبب الذات أو الشعور بالتقيد وعدم الراحة أو الإلتزام خاصة فى الأمور الجسدية التى كانت الأساس فى تكوين هذه الصداقات .

وهذه الصداقات تشبه البيت المبنى على الرمل وليس له أساس، فحينما تهب الريح تصدم هذا البيت، فيسقط ويكون سقوطه عظيماً. فإذا هبت على هذه الصداقات أى خلافات، تسقط وتنحل هذه الصداقات، لأن رباطها أمور جسدية وعالمية قريبة من الفناء.

وينصح القديس برصنوفيوس أحد أبنائه الذى سأله عن ذلك . سأل أخ شيخاً: أن يقيم أحد صداقة مع أخ من عمره ؟ أجابه الشيخ: أنه حسن ألا تكون لأحد صداقة مع أخ من عمره، لأن الصداقة تطرد النوح ( الروحى ) .أما أنت فلا تصادق أياً كان من شأنه أن يفقدك النوح، لأن فقدانه يسبب لك ضرراً كبيراً. فبدون التعب والنوح لا يستطيع أحد أن يقتنى شيئاً صالحاً. درب عينيك على عدم الإلتفاف إلى أحد، فنق قلبك من الدالة الخطرة التى تؤدى بالراهب إلى ضياع كل أثماره.

ثم يردف القديس حديثه قائلاً:

فالشبان ينبغى عليهم أن يكونوا حريصين على أنفسهم فى كل شىء، لأن الشيطان سريعاً ما يوقعهم فى الفخ. فإنهم قبل كل شىء، عندما يجلسون معاً يبدأون بالحديث فى ما ينفع النفس، لكن حديثهم لا يلبث أن يؤول بهم إلى المماحكات والدالة والضحك والذم وإلى شرور أخرى كثيرة فيتم ما قيل بالرسول " بعدما إبتدأتم بالروح الآن تتصرفون بالجسد " ( غل 3: 3 ) ولهذا يسقطون لأنهم يحبون الصداقة عن غير وعى. وحدود محبتهم بعضهم لبعض هى عدم الذم، عدم الغضب عدم الإستهانة، ألا يطلبوا ما لأنفسهم ولا يفضلوا راحتهم على راحة القريب، ألا يحبوا من أجل جمال الجسد أو لأنهم نالوا مساعدة الآخر. ألا يجلسوا معاً بدون ضرورة ماسة، مخافة أن يسقطوا فى الدالة المهلكة التى تبدد ثمر الراهب وتتركه مثل عود يابس.

وهناك صداقات جسدية أخطر من هذه الصداقات تسبب الهلاك بل الدمار لأى راهب، وهى أن يكون للراهب صداقات مع العلمانيين، فهو يترك صداقة إخوته الرهبان ليبحث عن صداقات أخرى خارج الدير مع العلمانيين أو الضيوف التى تزور الدير. فى هذه الحالة يصبح الراهب واحداً منهم ولكن فى زى راهب، ويبتدأ يتغير سلوكه الرهبانى إلى سلوك العلمانيين، وتتحول أحاديثه معهم من الروحانية إلى أحاديث حول أمور العالم ومشاكله. ونهاية هذه الصداقات تدمر حياة الراهب الروحية بالتمام ، وإن زادت أكثر من هذا تُدمر ما تبقى عنده من شكل الرهبنة.

ودائماً ما يُحذر الآباء الشيوخ أولادهم الرهبان من الخلطة بالعلمانيين فيقول القديس ثيؤفان الناسك: الحياة داخل الدير شاقة لمن يريدون أن يعيشوا بصحبة الناس.

قال الأنبا أنطونيوس : لا تخالط علمانياً بالجملة .

وقال آخر: لا تصادق رئيساًً .

وقال شيخ: لا تصادق صبياً ولا تبغض إنساناً.

وقال الأنبا أنطونيوس: لا تتحدث مع صبى، لا تصادقه البتة ولا تعاشره بالجملة ولا ترهبنه بسرعة.

قال القديس إكليماكوس: من يحب مخالطة الناس لن يستطيع أن يتفرغ لنفسه وهو عاهة لنفسه.

قال مار إسحاق: العادم من الأصدقاء المغرورين، عادم من الضنك.

قال الأنبا إشعياء: إياك أن تقتنى لك أصدقاء من بين رؤساء الدنيا لكى لا يبعد الله عنك.

2-صداقات روحية:

يتكون هذا النوع من الصداقات بين جماعة الرهبان، فهو يسمو عن الصداقات الجسدية إلى الأمور الروحية، فإن قوامها التأمل فى الكتاب المقدس أو أى مواضيع روحية، أو حفظ الألحان، أو أى حديث روحى مقدس عن أى مفهوم روحى، عامة هذه الصداقات دائماً ما يؤلفها ويوحدها الروح القدس مثل قيثارة تعزف ألحاناً عذبة، وتُخرج كلمات وأصوات روحية تطرب النفس وتُنعشها.

ويزداد رباط هذه الصداقة المقدسة مع مرور الأيام والسنين ، لأن أساسها وقيامها السيد المسيح، لأنه يقول " حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمى فهناك أكون فى وسطهم " ( مت18: 20 ) بل وإن حاولت قوى الشر زعزعة مثل هذه الصداقات، راغبة فى هدمها لنقائها وقداستها، لن تستطيع أبداً ( 1كو 13: 8 ) ، حتى وإن حدث بين الرهبان بعض الخلافات من زرع إبليس ، سرعان ما تزول هذه الخلافات وتعود المياه إلى مجاريها ، بل أن المحبة بينهم تُصقل وتزداد صلابة وقوة.

وأمثال هذه الصداقات منتشرة بكثرة بين الرهبان وسط المجامع الرهبانية، وهى مشجعة للراهب، ودافعاً قوياً له فى الطريق الرهبانى. فقد تتخلل هذه الجلسات الروحية، إثارة موضوع روحى معين، يمس شخصاً من المجموعة، فمن خلال الأحاديث والمناقشات ، تنصلح أفكاره وتتقوم طرقه إلى الصواب دون أن يشعر أحد بأى شىء. ولذا فإن هذه الصداقات تؤمن الراهب من أن ينحرف فكرياً أو أن يفتر روحياً، كما تحميه أيضاً من أى ضربات يمينية يوجهها عدو الخير ليعصف به، وإن إختلفت الآراء بين المجموعة، ولم تتفق على رأى روحى معين، تذهب وتسترشد من أحد الشيوخ الرهبان فى الدير أو من أب الإعتراف وتأخذ منه الرأى الأصوب.

ويتكلم عن ذلك الأنبا بولا الطموهى قائلاً: "إذا اتخذت لك صديقاً أميناً وقبلك إليه، فإن كنت ضعيفاً فهو يُشددك ويجعلك شجاعاً، وهو سوف يجعلك عمالاً مجاهداً، ويصير لك سياجاً متيناً وسنداً قوياً يعينك، ويكون لك كشجرة مظللة تستريح عنده من جميع أتعابك، ويكون لك قوة وثباتاً وعزاءً فى ضيقاتك، وتجده فى شدائدك يحمل جميع أتعابك، وإذا ألقيت عليه أتعابك كلها فهو يرفعها عنك.

ويقول أيضاً القديس إسطفانوس الطيبى:" إذا إتخذت لك صديقاً، فليكن إنساناً مؤمناً، أعماله أفضل من أعمالك، إنساناً محباً لله، لا يكون منشغلاً بأمور هذا العالم التى تغرق الناس. ولا تكن صديقاً لإنسان لا ينالك منه ربح بسبب إنشغاله بأمور هذا العالم، بل كن صديقاً للفقير ولمحب الله والمتواضع والغريب الذى يحفظ الغربة، ولمن كان متمنطقاً بمخافة الله، والمسكين الذى يحمل الصليب ويضع حارساً على فمه ( مز40: 3 )، يا إبنى كن صديقاً لكل الذين يخافون الله ".

وتتميز هذه الصداقات بأنها تُلهب القلب بمحبة الله، فبعد أن ينصرف كل راهب إلى قلايته، وقد أخذ شحنة روحية جبارة يقف ليصلى بفرح وتعزية وتأمل وبلا ملل، ولا يود أن ينتهى من صلاته، وإن فتح الكتاب المقدس لا يريد أن يغلقه، بل كلما إنتهى من قراءة إصحاح بدأ فى الإصحاح الذى يليه، ويستمر فى ذلك ساعات طويلة، وقد يرجع الراهب إلى قلايته ومعه آية أعجبته أو موضوع روحى أثير أثناء الحديث مع أصدقائه الرهبان، ويضغط الفكر الروحى على الراهب ويستمر معه ساعات طويلة، بل وكلما حاول إيقافه لكى يغفو قليلاً، حتى يقوم لصلاة نصف الليل والتسبحة، لا يستطيع إيقافه، إلا عندما يدق جرس نصف الليل ويذهب إلى الكنيسة للصلاة.

ويقف ضد هذه الصداقات فى الأديرة، قلة من الرهبان المتهاونين، الذين ينعتون أصحاب هذه الصداقات، بكلمات التهكم والسخرية، وقد يصفونهم أحياناً بالجنون، ولكن بينما مثل هؤلاء يرشقونهم، يتسلل أولئك الروحيون إلى الملكوت . ويقول فى ذلك القديس أنبا تيموثاوس:" إن أنت صادقت الله، يقوم عليك كل واحد، ويجعلون عقبهم على رأسك، وفى الآخر يجعلون عليك إكليلاً من ياقوت، وتاجاً ملوكياً يضعونه على رأسك. ويذكر الأب يوسف الوسائل التى تعمل على إستمرار الصداقة:

أولاً: إزدراء الأمور الزمنية وإحتقار كل ما نملكه لأنه من الخطاً تماماً أن نهتم بأباطيل العالم وكل الأمور المزدرية أكثر مما تهتم بالأمور الأقيم ألا وهى محبة القريب...

ثانياً: يجدر بكل إنسان أن يقطع رغباته فلا يظن فى نفسه أنه حكيم ومختبر مفضلاً آرائه عن آراء قريبه.

ثالثاً: يلزمه أيضاً أن يعرف أن كل شىء- حتى ما يبدو مفيداً وضرورياً – يحتل المركز الثانى بعد بركة الحب والسلام.

رابعاً: عليه أن يتحقق أنه لا يجوز له أن يغضب قط بسبب حسن أو ردىء.

خامساً: يجدر به أن يحاول شفاء كل حنق عند أخيه تجاهه ولو بغير سبب وذلك بنفس الطريقة التى بها يرغب فى أن يتخلص هو من حنقه ضد أخيه. وليعلم أن حنق أخيه ضده هو أمر شرير مثل حنقه هو ضد أخيه، فيبذل كل طاقته أن يستبعد عن ذهن أخيه الحنق تماماً.

أخيراً والأمر الذى بلا شك حاسم، وهو أنه يجب عليه أن يتحققه كل يوم أنه راحل عن هذا العالم. وبهذا ليس فقط لا يسمح للغضب أن يبقى، بل ويضبط كل حركات الشهوات والخطايا من كل الصنوف.

رابعاً: الصداقة مع الله

( الصديق الألزق من الأخ )

             

                   يستمر الراهب فى صداقاته الروحية مع الرهبان مدة طويلة، من خلالها تنمو حياته الروحية، وتتعمق بقوة فى محبة الله، وهنا يتدخل الله ليفطم الراهب حتى من هذه الصداقات الروحية، ليصبح الله هو الواحد فقط فى حياته، وهو الصديق الألزق من الأخ، يصبح الله بالنسبة له، النبع الوحيد الذى يأخذ منه الراهب شبعه ويأخذ منه تعزيته.

وعبر عن ذلك أحد الشيوخ فقال: " إن المرأة الشونمية، استقبلت أليشع لأنها لم تقم علاقة مع إنسان. إن الآباء يشبهون المرأة الشونمية بالنفس، وأليشع بالروح القدس، ويقولون بأن النفس فى أية ساعة تبتعد عنها العلاقات الجسدية، يفتقدها الروح القدس، ويصبح فى إمكانها أن تلد ولو كانت عاقراً.

وينبغى على الراهب الذى ينفرد بالصداقة مع الله فقط دون شريك له، أن لا تكون له خلافات مع أى راهب من إخوته الذين فى الدير، لئلا تكون صداقته لله، نوعاً من الأنطواء أو العزلة غير الصحيحة، والتى تسبب له الأمراض النفسية.

فيقول القديس أنبا تيموثاوس: " إن شئت أن تصادق الله، فلا تُحزن أحداً من الناس، ولو أكثر الإساءة إليك، بل أترك الأمر لله. ومما يشجع الراهب ويدفعه للإرتباط بالواحد عدة أمور نذكر منها:

1-الشبع الروحى فى الله فقط:

بعد أن يمكث الراهب فترة يستقى روحياته من خلال الصداقات الروحية مع إخوته الرهبان، يجد أنه لم يزل فى إحتياج روحى إلى الله، لأنه لم يشعر بالشبع الروحى، لذا يبدأ يبحث عن مصدر الشبع الحقيقى الذى يسد إحتياجه، فلن يجد سوى الله وحده، وهذا يجعله يعزف عن الآخرين، وينحل من رباط الصداقة الروحية مع إخوته الرهبان، ويستبدلها بالصداقة مع الله فقط الذى يجد فيه الشبع الحقيقى لكل كيانه وحياته داخل الدير.

2-كبر السن، ومحبة الجلوس فى القلاية:

مع مرور الأيام والسنين التى تمر على الراهب فى الدير، يكبر فى العمر وتقل كمية العمل المطلوبة منه، أو يعفى منه نهائياً إذا رأى المسئولون أن هذا أصلح له، وبالتالى يكون له فرصة ووقت أطول للجلوس فى القلاية، وعدم الخروج منها إلا عند الضرورة، مما ينمى بينه وبين الله علاقة أقوى وتصير صداقة حميمة بينه وبين الله، يحب الحديث إليه دائماً فى الصلاة ويحب سماع صوته من خلال كلامه معه فى القراءة الدائمة للكتاب المقدس، ونتيجة لعدم خروجه كثيراً من القلاية، تقل علاقته مع الآخرين وتفتر تدريجياً، بينما داخل القلاية تقوى صداقته مع الله، ودون أن يشعر الراهب أو يتصنع ذلك تتبدل صداقته مع الرهبان بصداقته مع الله.

3-أمانة الله فى صداقته:

كل يوم يمر على الراهب فى الدير، يلمس فيه أمانة الله نحوه، فكم من مرة قطع عهداً مع الله أن يعيش له ولا يفعل الخطية، ولكنه نكث هذا الوعد، ورغم كل ما ارتكبه من شرور وخطايا وخيانة ... نحو الله، يجد مراحمه تسعى نحوه لتجديد العهد مرة أخرى، بينما إن هو نكث العهد مع صديق له، رجعت العلاقة مرة أخرى، لا تكون مثل الأول بل تكون بحساب وحساسية .بل أكثر من هذا يشعر بعطايا الله ونعمه الكثيرة له، والتى أجزلها عليه ولم يكن يمتلكها قبل خيانته لله فهو يقول حيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك.

يلاحظ الراهب محبة الله المتناهية وأمانته المقدسة، على العكس تماماً، من عدم محبته الكاملة لله وخيانته المتواترة له، كما يقارن أيضاً بين محبة الله وتذبذب محبة الأصدقاء وعدم الأمانة فى الوعود والصداقة. كل هذا يدفعه للتخلى عن الكل والإرتباط بالواحد الألزق من الأخ.

بل الأعجب من ذلك أن الله يسمح ببعض الخلافات بين الراهب وإخوته، لكى ينحل الراهب من أى إرتباط حتى وإن كان مع إخوته الرهبان فى الدير، ليرتبط بالصديق الواحد أى الله، وهنا يحقق الراهب الهدف الحقيقى والأساسى من الرهبنة، كما قال مار إسحاق وهو " الإنحلال من الكل للإرتباط بالواحد "